مع كل ما سبق عرضه، إلا أننا نجد المغرضين لا يعجبهم ذلك، فقد أكثرت طوائفهم، وفرقهم، من شيعة، وعلمانية، ومستشرقين، من وضع الشبهات، وأكثروا من الطعن في كل رموز الإسلام، في أبي بكر، في عمر، في علي، في عائشة، في سعد بن عبادة، وفي غيرهم ولعلنا نضع هنا سؤال:
- إذا لم يكن الصديق t فمن غيره يكون خليفة؟!
وهذا ليس مجرد عصف ذهني، أو مجرد طرح نظري لأسماء أخرى، ولكن هذا السؤال؛ لأن هناك طوائف مختلفة من المشككين في خلافة الصديق t طرحت أسماء أخرى؛ للطعن في خلافة الصديق t، ولتشويه الصورة الجميلة للجيل الأول، ولأهداف أخرى كثيرة، كثير من المستشرقين فعل ذلك، وسار على نهجهم بعض المستغربين من أبناء المسلمين، وكثير من طوائف الشيعة أيضًا فعلت ذلك، ولم يطعنوا في خلافة الصديق t فقط، بل في خلافة عمر وعثمان أيضًا y أجمعين.
وتكاد تنحصر الأسماء المرشحة في شخصين:
الأول: هو علي بن أبي طالب t، والثاني: هو سعد بن عبادة t زعيم الخزرج والأنصار.
أما سعد بن عبادة فقد تحدثنا عن تفصيلات موقفه، ولماذا كان مرشحًا للخلافة؟ وكيف نزل الأنصار عن رأيهم بترشيحه؟ والعدول بعد ذلك إلى ترشيح أبي بكر الصديق t؟ وكيف بايعوا جميعًا بما فيهم سعد بن عبادة t؟
وأما عمر بن الخطاب t، فلم يطرح اسمه حقيقة من أحد، اللهم إلا من أبي بكر الصديق نفسه يوم السقيفة، لما رشحه للخلافة وقال: أنت أقوى مني. فقال عمر: قوتي مع فضلك.
والجميع يعلم أن أبا بكر مقدم على عمر، وعمر نفسه كان يقول: والله لئن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
كما أن الشدة المعروفة عند عمر t لم تكن مناسبة للأمة، وهي خارجة من المصيبة الكبيرة بوفاة الرسول r.
شبهة أحقية علي بن أبي طالب t بالخلافة :
إذن يبقى اسم واحد محل كلام ونقاش وجدال، وهو البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب t، هذا الصحابي الجليل t، أشاع كثير من الشيعة أنه كان أحق بالخلافة من أبي بكر الصديق t، وأعجبت الفكرة كثير من المستشرقين، فذكروها في كتبهم على أساس أن الخلافة حق منهوب من علي بن أبي طالب، بل إن بعض الشيعة المتطرفة تجاوزت الحدود في علي بن أبي طالب، وادعت أنه كان أولى بالرسالة من رسول الله r ولهم في ذلك تخاريف عظيمة، بل إن طائفة أخرى تجاوزت هذا الأمر إلى تأليه علي بن أبي طالب t، تعالى الله عما يصفون..
هذا الغلو في علي بن أبي طالب t ظهر في أواخر أيام عثمان بن عفان t، في بدايات الفتنة واتساع رقعة الإسلام، ودخول الكثير من المغرضين في دين الله، ومحاولتهم هدم الإسلام من جذوره وأصوله، دخل في دين الله كثير من اليهود والمجوس الذين أرادوا أن يقسموا الدولة الإسلامية إلى طائفتين متنافرتين من جهة، وأن يطعنوا في رموز الصحابة من جهة أخرى، وقد يكون عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من أشاع بين الناس فكرة التشيع لعلي بن أبي طالب، وإنه أولى بالخلافة من عثمان بن عفان، بل ومن أبي بكر وعمر y أجمعين، وكان لعبد الله بن سبأ أعوان من قبائل شتى، كلها تنقم على الإسلام لأسباب مختلفة، وكثير منهم من أرض فارس حيث الأقوام الذين أكل الحقد قلوبهم، لانهيار دولتهم على أيدي المسلمين بقيادة أبي بكر، ثم عمر رضي الله عنهما.
وما زالت إلى الآن هذه المغالاة في علي بن أبي طالب t، وأكثر طوائف الشيعة اعتدالاً ترى شرعية خلافة الصديق، وعمر على سبيل جواز إمامة المفضول للفاضل، أي أنهم يزعمون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان، لكن يجوز أن يتولى الخلافة الأقل فضلاً، هذا الفكر المتشيع لعلي بن أبي طالب t لا يقتصر فقط على طوائف الشيعة، بل كما ذكرنا أعجبت الفكرة المستشرقين، فذكروها في كتبهم، وأفردوا لها البحوث، والتحليلات، وانتقل هذا الفكر إلى طائفة من المسلمين المحسوبين على أهل السنة، والمتعلمين على أيدي هؤلاء الغربيين، والله لقد قرأت في هذا الموضوع كتابات يقشعر منها البدن، ويكاد المرء يصاب بالغثيان من أولئك الذين يطعنون في صحابة رسول الله r بهذه الصورة، وما زال هذا الفكر يدرس إلى الآن في جامعات إسلامية وغربية كثيرة.
وسؤال هام قد يطرأ على الذهن:
لماذا اختار عبد الله بن سبأ اليهودي، أو غيره ممن ابتدع هذه الفكرة، لماذا اختاروا اسم علي بن أبي طالب t ليدعوا أنه كان أحق بالخلافة؟
لماذا لم يختاروا أي صحابي جليل آخر، وما أكثر الصحابة؟
لقد فكر هؤلاء في أنه لكي يقتنع الناس بشخصية أخرى غير الصديق t، وعمر، وعثمان رضي الله عنهما لا بد أن يأتوا باسم تهفو له نفوس المسلمين بصفة عامة، ويشعرون بعاطفة كبيرة نحوه، ونفوس المسلمين قد تهفو إلى كل الصحابة، إلا أن علي t يتميز عنهم بأمرين هامين جعلا المغرضين يختارونه لهذا الأمر..
أما الأول: فهو لقرابته t من رسول الله r، فهو ابن عمه ومن بني هاشم وأقرب إلى الرسول من أبي بكر وعمر وعثمان.
وأما الثاني: فهو أنه زوج ابنة رسول الله r، وأبو أحفاده الحسن والحسين رضي الله عنهما أولاد السيدة فاطمة رضي الله عنها، وليس هذا لأحد غيره، نعم تزوج عثمان بن عفان t ابنتين لرسول الله r، لكنه لم يكن له أولاد من السيدة رقية والسيدة أم كلثوم يحملون نسل الرسول r.
لهذين السببين اختاروا على بن أبي طالب كي يستغلوا اسمه في تفريق المسلمين إلى طائفتين شيعة، وسنة وما زال هذا التقسيم إلى الآن موجودًا.
وقبل أن نرد على هذين الأمرين فإننا نريد أن نقول أننا لا يجب أن يدفعنا حبنا للصديق t، ورفضنا لفكرة الإشاعة بأن علي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من الصديق t، لا يجب أن يدفعنا هذا الأمر إلى التقليل من شأن الصحابي الجليل العظيم على بن أبي طالب t، فله من المناقب والآثار ما نعجز عن وصفه في مجلدات ومجلدات، وهو أول من أسلم من الصبيان، وله مواقف مشهورة في تاريخ الإسلام، وفي الهجرة، وفي كل الغزوات، وكان مقربًا لقلب رسول الله r، وله مواقف عظيمة حتى بعد وفاة الرسول r في خلافة الصديق، وعمر، وعثمان y، ثم في خلافته هو t، وفي الجملة فهو من أفضل الصحابة على الإطلاق، بل يجزم كثير من العلماء المسلمين أنه رابعهم في الفضل بعد الصديق أبي بكر، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان y جميعًا، إذا وضعنا هذه الخلفية في عقولنا، فإننا نكون في مأمن من التقليل من حجم شخصيته، وهذا هو عين الصواب في التعامل مع جيل الصحابة بأكمله، y أجمعين.
ونعود إلى الأمرين اللذين تميز بهما علي بن أبي طالب t على غيره من الصحابة، وهما قرابته من رسول الله r، وزواجه من ابنته فاطمة رضي الله عنها.
أما الأمر الأول: قرابته من رسول الله r:
فهل تكفي القرابة لتقديم شخص على آخر؟
وهل تاريخ الرسول r يشير من قريب، أو بعيد في جعل هذا الأمر لقرابته؟
ألم يقل r: "الأَئِمَّةُ فِي قُرَيْشٍ".
ولو أراد لقال الأئمة في بني هاشم، لكنه لم يرد ذلك، دعوة الإسلام ليست دعوة قبلية، ولو أخذها علي بن أبي طالب لكان ذلك دليلاً على القبلية لا يقاوم، ومنذ متى تنفع القرابة أو تجدي، حتى وإن كانت قرابة الرسول r؟
بل ألم نشاهد أبا طالب العم القريب إلى قلب الرسول r يظل كافرًا حتى آخر لحظة من حياته فيدخل النار، كما أخبر بذلك رسول الله r؟
وهل كانت العقليات والكفاءات في عائلة رسول الله r أعلى وأكبر من العقليات والكفاءات خارجها؟
لقد حاول رسول الله r طيلة حياته أن يرسخ في أذهان الأمة أن المرء بعمله لا بنسبه، فلو أخذها رجل من بني هاشم مع وجود من هو أعلى منه كفاءة وأعظم فضلاً أكان ذلك يرضيه r؟
هذا كله ولا شك لا يقلل من فضل علي بن أبي طالب t، ولكن ولا شك أن الخلفاء الثلاثة الأوائل قد فاقوه في الفضل بإجماع الأمة وقتها وبعد ذلك، ولم يكن للقرابة أن تغير من هذا الفضل أبدًا.
ثم هل كان يتقدم علي بن أبي طالب t، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره إلا بقليل على الأشياخ الكبار بالنسبة له كأبي بكر وعمر وعثمان؟ علي بن أبي طالب t كان يبلغ من العمر وقت وفاة الرسول r حوالي 31 سنة بينما كان الصديق t في الواحدة والستين من عمره، نعم تولى قيادة بعض الجيوش الإسلامية شباب كثير، لكن قيادة الجيوش شيء وقيادة الأمة شيء آخر، ولا شك أن الخبرات المتراكمة لرجل مثل الصديق t كانت نفعًا للأمة، والأمة لم تخسر طاقات الشباب، فالصديق الإمام يوجه، وينظم، ويخطط، والجميع في الأمة ينفذ.
والأمر الثاني: هو زواج عليّ من فاطمة بنت النبي r، أكان ذلك الأمر يؤهله للخلافة؟
إذا كان رسول الله r لا يغني عن فاطمة نفسها رضي الله عنها شيئًا، ولا تنجو إلا إذا عملت، أفيغني رسول الله r عن زوج ابنته إلا إذا عمل؟
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: قام رسول الله r حين أنزل الله U: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أو كلمة نحوها- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ r لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مِالِي لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا".
وهكذا فإن الرسول r وضح أن هذه العلاقات لا تقدم ولا تؤخر في فضل المؤمنين، وإن التفاضل بين الناس لا يكون إلا بالتقوى والعمل الصالح، والكفاءة، وغير ذلك من الأمور المكتسبة، ولا يتفاضل الناس بحسب الأشياء التي لا دخل لهم فيها، كالنسب، واللون، والجنس، والحالة المادية، وغير ذلك من أمور التفاضل.
ولعل هذا هو الحكمة أو جزء من الحكمة التي من أجلها لم يعش لرسول الله r أولاد من الذكور، فإذا كان الناس تشيعوا هكذا لعلي بن أبي طالب t، واستخلفوه للتفريق بين المسلمين، فماذا كان يفعل المسلمون مع ابن الرسول r لو عاش، لا شك أن طائفة الشيعة هذه كانت ستجد فيه، وفي ذريته ذريعة للاتباع، وتفريق المسلمين تحت قيادات مختلفة.
ولا شك أن الذين أشاعوا هذه القضية كانوا يعلمون أن حجتهم ليست بالقوية، فهم يطلبون خلافة لعلي بن أبي طالب t على أساس القبلية والقرابة، وهي مؤهلات غير مقبولة في الشرع الإسلامي، فماذا يفعلون حتى يثبتوا خلافة في غير موضعها؟ لقد بحثوا عن مصداقية أخرى لهذا الأمر فوجدوها.
ادعاء وصية النبي r لعلي بالخلافة :
فها هي فرية أخرى ابتدعوها ابتداعًا، تلك الفرية هي: الادعاء بأن الرسول r قد أوصى لعلي بن أبي طالب t بالخلافة من بعده، نشرت طوائف كثيرة من الشيعة هذه الإشاعة، وأعجبت المستشرقين، والعلمانيين حتى درّسوها في المدارس والجامعات، حتى يوهموا الدارسين أن المخالفات بين الصحابة كانت مبكرة جدًّا، بعد وفاة الرسول r، للأسف الشديد، فإنني وجدت مثل هذه المناهج تدرس وبشدة في أكثر من جامعة، ووجدت أيضًا كتبًا كثيرة تتبنى هذا الفكر مع كونه مغايرًا للحقيقة تمامًا.
للرد على هذه الإشاعة أو الشبهة، شبهة أن الرسول r قد أوصى لعلي بن أبي طالب t بالخلافة نقول:
أولاً: لم يرد بهذه الوصية نقل صحيح، كل الروايات التي ذكرت هذه الوصية روايات في غاية الضعف، بل هي موضوعة من الأصل، ونحن كمسلين حريصين على ديننا يجب أن نحرص أن ننقل الصحيح فقط من الروايات، وخاصةً في هذه القضايا الشائكة، وهذه الأمور التي يطعن بسببها في صحابي أو أكثر، ومن أراد أن يخرج علينا بفكرة الوصاية هذه، فليأت بدليل صحيح وإلا فما أسهل الكلام.
ثانيًا: إذا كانت هناك وصية معلومة من رسول الله r إلى علي بن أبي طالب t للزم أن نفترض أن الصحابة جميعًا اتفقوا على مخالفتها، ومخالفة وصية كهذه تكون مخالفة صريحة للشرع، فيلزم هنا اتهام الصحابة جميعًا بالمخالفة الشرعية للإسلام، وفي أمر خطير كهذا، وهذا ما لا يعقله عاقل، كيف يتفق جيل بأكمله على خلافة رجل، وإنكار خلافة رجل آخر مع وجود الوصية بغير ذلك، مع العلم أن أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما كلاهما من قريش، فلا مجال لترجيح واحد على الآخر إن كان هناك وصية بذلك، وكيف يتفق الأنصار مع القرشيين ضد علي بن أبي طالب؟
هذه تساؤلات لا رد عليها عند طوائف الشيعة التي تتبنى فكرة الوصية لعلي بن أبي طالب، ولم يستطيعوا أن يخرجوا من هذا المأزق إلا بأمر عجيب: هو أنهم فَسّقوا، وأحيانًا كَفّروا كل جيل الصحابة إلا مجموعة تعد على أصابع اليدين منهم، وهذا من المستحيل أن يستساغ عقلاً، فضلاً عن غياب النقل الصحيح بذلك.
وهذا الموقف في غاية الخطورة ترتبت عليه نتائج خطيرة، فهذه الطوائف الشيعية المتجاوزة قالت: إن كل هؤلاء الصحابة بدّلوا وغيّروا في أمر خطير كهذا، فكيف يقبل منهم بقية الأمور؟
ولذلك قالوا أنهم لا يجب أن ينقلوا عنهم حديثًا، ولا دينًا، ولا تشريعًا، ولا فقهًا، فحرموا أنفسهم وأتباعهم من آلاف الأحاديث التي نقلت عن طريقهم، قالوا:
لا نأخذ عن عائشة،
لا نأخذ عن أبي هريرة،
لا نأخذ عن عمر بن الخطاب،
لا نأخذ عن عبد الله بن عمر،
لا نأخذ عن عبد الله بن عمرو،
لا نأخذ عن كامل الأنصار،
إذن أين الدين؟
أين الشرع الذي تتبعون؟
لا يأخذون إلا ما جاء عن طريق علي بن أبي طالب، وعدد محدود جدًّا لا يزيد عن العشرة من صحابة الرسول r، وينقل عنهم بواسطة طرقهم الخاصة التي هي في غالبها ضعيف، بينما يعرضون كلية عن كل الطرق التي قبلها علماء السنة المسلمين؛ لأنهم كما يقولون نقلوا عن الصحابة الذين تآمروا في زعمهم على علي بن أبي طالب، من ثم فهم لا يعترفون بالبخاري ولا بمسلم ولا بسنة أبي داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجه، والإمام أحمد، أو غيرهم من أئمة الحديث عند المسلمين، وهذه بالطبع كارثة، هاوية سحيقة، بل هي ضرب للدين في أصوله.
ثالثًا: إذا كان هناك فعلاً وصية لعلي بن أبي طالب t، فلماذا لم يصرح بها علي بن أبي طالب؟
أو حتى يكتفي بالإشارة أو بالتلميح، ألا يعد علي بن أبي طالب هنا كاتمًا لما أوصاه به رسول الله r؟
إذا كانت هناك وصية لأحد فكتمها يعد مخالفة للشرع، أيفعل علي بن أبي طالب ذلك؟
قالت الشيعة: إنه كتم هذا الأمر تقية.
أي يتقي الصحابة فكتم الأمر خوفًا على نفسه إلى أن تأتي الظروف، ويتمكن من الحكم، لا حول ولا قوة إلا بالله، أي مجتمع هذا الذي تصفون؟
ثم ألم يكن علي بن أبي طالب شجاعًا مقدامًا لا يخاف في الله لومة لائم؟ أيكتم هذا الأمر تقية؟
ثم من يتقي؟
هل علي بن أبي طالب الهاشمي، وقبيلته التي هي أعظم قبيلة في قريش، هل يتقي أبا بكر التيمي وقبيلته بني تيم التي من أضعف بطون قريش؟
لا أعتقد أن أحدًا يقبل ذلك عقلاً.
رابعًا: هل كانت فاطمة بنت محمد رضي الله عنها بعيدة عن سرير أبيها رسول الله r، لقد كانت بجواره حتى آخر اللحظات، فهل لم تعلم منه شيئًا خطيرًا كهذا حتى تخبر به بعد ذلك؟
وهل منع علي بن أبي طالب من زيارة الرسول r حتى لا يخبره بهذا الأمر؟
من الواضح بدراسة كل الملابسات أن هذه الوصية ما هي إلا قصة مختلقة لم يعرف بها أحد إلا بعد أن وضعت، وألفت، ولفقت لرسول الله r.
إرسال علي بسورة براءة في موسم الحج :
شبهة جديدة قالوها في هذا المضمار أيضًا، قالوا لقد أرسل رسول الله r عليّ بن أبي طالب t بسورة (براءة) ليقرأها على الناس في الحج، يقطع بها عهود المسلمين معهم، وفي ذلك كما زعموا إشارة إلى استخلاف علي بن أبي طالب t، ومن المعروف أن أمير الحج في هذا الموسم هو أبو بكر الصديق t، فقالوا: لو لم يكن يقصد أن يستخلف عليًّا لجعل أبا بكر هو الذي يقطع العهود، وسبحان الله ما أبسط الشبهة وما أتفهها.
أولاً: نزلت سورة براءة بعد خروج أبي بكر بوفد الحج، وكان أبو بكر هو الأمير، فلما نزلت السورة أرسل رسول الله r رجلاً من رجاله لم يكن في الحج، وهو علي بن أبي طالب بالسورة حتى يصل بها إلى الناس المجتمعة في الحج.
ثانيًا: من عادة العرب أن الذي ينقض عهد رجل لا بد أن يكون من قبيلته، فلكي يقطع عهد محمد r لا بد أن يكون الناقض من قبيلته وهو علي بن أبي طالب t، والحديث هنا في موسم الحج ليس للمسلمين فقط حتى يكلف الرسول r أبا بكر، ولا ينظر إلى تقاليد العرب في نقض العهود.
بل إن الحديث المقصود موجه إلى المشركين في الأساس، فلا بد أن يصل إليهم بالصورة التي يقبلوها دون جدال ولا نقاش.
ثالثًا: لقد تعلق المغرضون بإشارة خفية في إرسال علي بن أبي طالب، وأغفلوا أمرًا جليًّا واضحًا في ذات القصة، وهي أن علي بن أبي طالب لما جاء إلى أبي بكر الصديق t في مكة قال له أبو بكر الصديق t: أمير أم مأمور؟
فقال علي بن أبي طالب: بل مأمور.
فكيف يعتقدون في استخلاف المأمور علي بن أبي طالب، ويتركون الأمير أبا بكر الذي يُعلّم الناس أمور حجهم، والذي يقود الجميع بما فيهم علي بن أبي طالب نفسه؟
من الواضح أن هذه القصة حجة عليهم، لا لهم، لكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
شبهة تأخير بيعة علي لأبي بكر :
شبهة أخرى ساقوها للتأكيد على أحقية علي بن أبي طالب في الخلافة، قالوا إنه لم يكن راضيًا على اختيار أبي بكر الصديق t، ولذلك لم يبايعه لمدة ستة شهور كاملة، فهل غضب علي بن أبي طالب حقًّا؟
وإذا كان غضب فلماذا؟
والحقيقة أن هناك رواية في صحيح مسلم تذكر أن علي بن أبي طالب t لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها بستة أشهر، ومع ذلك فقد روى ابن حبان بسند صحيح موصولاً إلى أبي سعيد الخدري t أن عليًّا بايع أبا بكر الصديق t في اليوم الثاني للخلافة، فما تفسير ذلك؟
التفسير الذي يرجحه ابن كثير رحمه الله أن علي بن أبي طالب، قد بايع مرتين، المرة الأولى في اليوم الثاني لوفاة الرسول r، والمرة الثانية بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وذلك بعد ستة شهور من المبايعة الأولى للصديق t.
أما المبايعة الأولى فهي التي جاءت في رواية الحاكم والبيهقي وابن سعد وابن حبان بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري، وفيها أن أبا بكر الصديق t صعد المنبر في اليوم الثاني -يوم البيعة العامة للجمهور- فنظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير بن العوام t، فدعا بالزبير فجاء (الزبير في ذلك الوقت كان في بيت الرسول r يجهزه للدفن، ولم يكن قد دفن بعد في اليوم الثاني) فقال أبو بكر له: قلت ابن عمة رسول الله r وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين.
فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله r. فقام فبايع، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير عليًّا، فدعا به فجاء فقال: قلت ابن عم رسول الله r وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين.
فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله r. فبايعه.
فهنا تصريح بالمبايعة، وقد تخلف الزبير وعلي رضي الله عنهما عن الحضور في يوم السقيفة، وفي اليوم الثاني، لأنهما كانا مشغوليْن بتجهيز رسول الله r للدفن، ولما استراب أبو بكر t لغيابهما، أرسل إليهما يلومهما، فجاءا يعتذران ويبايعان.
بل إن الطبري روى بأسانيده عن حبيب بن أبي ثابت رحمه الله، أن عليًّا كان في بيته، فأتى إليه الخبر عن جلوس أبي بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عَجِلاً، كراهية أن يبطئ عنه حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث فأحضر ثوبه وتخلله ولزم مجلسه.
ثم إن عليًّا والزبير بن العوام رضي الله عنهما كانا يشعران بشيءٍ من الغضب أو عدم الرضا بخصوص ما تم في سقيفة بني ساعدة، لم يكن ذلك لعدم اقتناعهما بأبي بكر الصديق t، ولكن لأنهما أخرا عن المشورة، وهما -كما يعلم الجميع- على درجة عالية من الفضل، والسبق والرأي.
- روى الحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف t، أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام قالا: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله r بالصلاة بالناس وهو حي.
كانت هذه هي المبايعة الأولى، يصاحب هذه المبايعة موقف آخر، هو طلب السيدة فاطمة رضي الله عنها ميراث رسول الله r، فلما جاء سيدنا علي t يطلب ميراث السيدة فاطمة رضي الله عنها في أبيها r، رفض أبو بكر الصديق t، وقال لها حديث رسول الله r لا نورث، ما تركنا صدقة، فوجدت، أي غضبت السيدة فاطمة في نفسها، تفسير هذا الموقف سنأتي له إن شاء الله في فقرة قادمة، لكن المهم هنا أن السيدة فاطمة رضي الله عنها وجدت في نفسها، ثم ما لبثت أن مرضت، ولزمت بيتها يعالجها ويمرضها زوجها علي بن أبي طالب t، وكان مراعاة لمشاعرها يقلل من اختلاطه بمجلس أبي بكر t، فلما ماتت السيدة فاطمة بعد ستة شهور من وفاة الرسول r، ودفنها علي بن أبي طالب t، شعر أن بعض المسلمين يشعرون بهجرته للخليفة أبي بكر الصديق..
فأراد أن يؤكد على بيعته، وأنه ما انعزل عنه إلا لأمر السيدة فاطمة رضي الله عنها، فذهب وبايع البيعة الثانية له، ومما قاله علي بن أبي طالب في هذه المبايعة الثانية، كما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن عليًّا قام فعظم حق أبي بكر، وحدث إنه لم يحمله على الذي صنع (من هجره للصديق، ومن غضب أصابه للتأخير عن المشورة) نفاسة على أبي بكر، ولا إنكارًا للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر (أي في أمر اختيار الخليفة) نصيبًا، فاستبد علينا (أي سارع إلى الاختيار دون انتظار علي والزبير والعباس y جميعًا) فوجدنا في أنفسنا، فَسُرّ بذلك المسلمون (أي سروا ببيعة علي بن أبي طالب)، وقالوا: أصبت.
وكان المسلمون إلى علي قريبًا حين راجع الأمر المعروف.
أي كان المسلمون قريبين من علي بن أبي طالب فرحين به لما راجع الأمر المعروف أي البيعة التي اجتمع عليها المسلمون.
وبالطبع فإننا قد شرحنا من قبل لماذا أسرع أبو بكر وعمر باختيار الخليفة في سقيفة بني ساعدة دون انتظار، وذلك خوفًا من الفتنة الكبيرة كما فصلنا قبل ذلك، ثم إن علي بن أبي طالب لا يخفى أمره وليس بالمجهول عند الصحابة، ولو أراد الصحابة في بني ساعدة أن يختاروا عليًّا لرشحوا اسمه للخلافة حتى في غيابه، ولكن كان من الواضح أنه لا يوجد أحد في المدينة يتقدم على أبي بكر الصديق t.
إذن الفريق الأول من العلماء يقول أن عليًّا قد بايع مرتين:
المرة الأولى بعد وفاة الرسول r بيوم، والمرة الثانية بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، لطرد الشائعات بأنه لا يرضى عن خلافة الصديق t.
لكن ما زال هناك موقف يحتاج إلى تفسير، وهو أن رواية مسلم تقول بالتصريح أن عليًّا لم يبايع إلا بعد ستة أشهر فما تفسير ذلك؟ يفسر هذا الموقف بأمرين:
الأمر الأول: أن هذه الرواية، وإن كانت في صحيح مسلم، إلا أن البيهقي رحمه الله ضعفها، وذلك لأن الزهري أحد رواتها رواه رواية غير متصلة فالسند -كما يقول- منقطع، فلو كان صحيحًا فلا يبني عليها هذا النفي للبيعة، وعلى الطرف الآخر إن صحت هذه الرواية، فإنها تحمل على أن الراوي لهذا الحديث لا يعلم أن عليًّا قد بايع المبايعة الأولى، فهنا حديث صحيح يثبت لعلي بن أبي طالب بالبيعة الأولى، وحديث آخر لو صح ينفي البيعة الأولى لعلي بن أبي طالب، فبأي الحديثين نعمل؟
يقول الفقهاء في ذلك الأمر أن الحديث المثبت يقدم على المنفي، لأن الذي نفى، نفى أن يكون قد وصل إلى علمه، ولكن قد يكون الأمر حدث، ولم يعلمه، أما الذي أثبت فقد أثبت؛ لأنه تيقن من الثبوت، مثال ذلك:
روى البخاري ومسلم وبقية الخمسة إلا أبو داود أن السيدة عائشة قالت: ما بال الرسول r قائمًا قط. هذا نفي.
وعلى الناحية الأخرى روى أيضًا البخاري ومسلم وبقية الخمسة عن حذيفة بن اليمان قال: رأيت رسول الله r يبول قائمًا. هذا إثبات.
أي الحديثين نقدم؟
قال العلماء: يقدم المثبت على المنفي، حذيفة رأى النبي r يبول قائمًا فهذا حدث، أما السيدة عائشة فقالت إنه لم يبل قائمًا، وهذا علمها وصدقت فيه، لكن هذا لا يمنع أنه بال قائمًا بعيدًا عنها ولم تعلمه.
فخلاصة الأمر في هذا أنه لو صح حديث يثبت لعلي بن أبي طالب البيعة الأولى، فإنه يقدم على الحديث الآخر الذي نفى البيعة الأولى، وإن صح هذا الحديث.
ثم بفرض أن عليًّا لم يبايع فعلاً إلا بعد ستة شهور، أيقدح هذا في صحـة خلافة الصديق t؟
أبدًا، إن البيعة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد، ثم بيعة الجمهور، وهذه البيعات قد تمت بالفعل لأبي بكر الصديق t، ولا يضر البيعة أن يناقضها رجل أو رجلان أو عشرة أو أي أقلية، ومع ذلك فإن علي بن أبي طالب t لم يتخلف عن أمر الصديق t، ولم يتردد عن طاعة أوامره، ولم يشق عصا المسلمين، وهذا هو المطلوب منه، وليس بالضرورة أن يكون في اختلاطه معه كما كان قبل الخلافة، فإنه من المعروف أن علي بن أبي طالب لم يكن يتخلف عن الصلوات خلف الصديق t، لم يكن يتخلف عن الشورى معه، ولما خرج الصديق t لقتال المرتدين بنفسه، وقف له علي بن أبي طالب كما روى الدارقطني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: أخذ علي بن أبي طالب t بزمام راحلة أبي بكر t وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله r؟
أقول لك ما قال لك رسول الله r يوم أحد: شم سيفك -أي رده إلى غمده- ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا.
ولما اضطر أبو بكر للخروج بنفسه بعد أن خرجت كل الجيوش لحرب المرتدين، ثم هجمت عبس وذبيان على المدينة، خرج معه علي بن أبي طالب إلى ذي القصة يحارب معه المرتدين، وروى البخاري عن عقبة بن الحارث t: رأيت أبا بكر t، وحمل الحسن وهو يقول: بأبي شبيه بالنبي، ليس شبيه بعلي. وعلي يضحك.
وفي رواية الإمام أحمد أن هذا كان بعد وفاة الرسول r بليال، وذلك بعد صلاة العصر، فهذا ينفي الانقطاع المذموم الذي روج له المغرضون.
إذن علي بن أبي طالب t لم يكن خارجًا عن الجماعة بأي صورة من الصور، ولم يثبت أبدًا أي اعتراض له على خلافة الصديق، وبايع علي الصديق إما مرتين، وهذا هو الأقرب، أو يكون قد بايع مرة واحدة بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وهذا لا يقدح في خلافة الصديق، ولم يكن لعدم البيعة أي مردود على طاعة علي بن أبي طالب للصديق y أجمعين.
ومع فداحة الشبهات السابقة إلا أن سهام المغرضين لا تنتهي.
شبهة المؤامرة على علي :
شبهة جديدة أطلقوها بخصوص هذه البيعة للصديق t، هذه الشبهة الجديدة شنيعة للدرجة التي تهدف إلى هدم الإسلام من أساسه، تولى كبرها طائفة الشيعة أرادوا الطعن في رموز الإسلام العظيمة، بصورة تظهرهم كأسوأ ما يكون الرجال، هذه الشبهة الشنيعة هي أن الصديق t، وعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة بن الجراح y، قد تآمروا على أمر الخلافة فيما بينهم، وساعدتهم في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها، حاشا لله من هذه الفرية، يزعمون أنهم جميعًا قد تآمروا على أن يأخذ الصديق الخلافة في بادئ الأمر، ثم يعطيها بعد ذلك لعمر بن الخطاب، ثم يعطيها عمر لأبي عبيدة بن الجراح، لكن أبو عبيدة مات قبل موت عمر، فلم تكتمل أطراف المؤامرة كما يقولون، ويقولون أن هذا التآمر ساعدت فيه السيدة عائشة بأن ادعت كما يقولون، أن الرسول r أوصى بالصلاة لأبي بكر، بينما الحقيقة في زعمهم أنه أوصى بالصلاة لعلي بن أبي طالب، وأخفت ذلك السيدة عائشة، وبذلك أوصلت الخلافة إلى الصديق t.
تصوير قبيح وشنيع، لأعظم أجيال الإسلام ولأرقى رموز الإسلام، إذا كان هؤلاء السابقين على هذه الشاكلة فلا أمل فيمن جاء من بعدهم، وهذا هو بيت القصيد في الشبهة، ليست القضية اتهام رجل أو رجلين، ولكن القضية أعمق من ذلك بكثير، هي فعلاً هدم لدين الإسلام من جذوره، هم يقيسون الأحداث بمقاييس هذا العصر الذي نعيش فيه الآن، يرون السياسة كما يرونها الآن، مؤامرات، ودسائس، ومكائد، وخداع، ونفاق، وغش، وتحايل، هذه السياسة التي يشاهدها الناس، وعلى هذا الأساس يقومون سياسة الإسلام في عهد الخلفاء، وما أدركوا أن الإسلام قدم أروع أنظمة السياسة، وأرقى الأمثلة للتطبيق العملي لهذه القواعد السياسية، هم لا يتخيلون أن رجلاً نقيًّا مثل أبي بكر، وعمر يكون رجلاً سياسيًّا ناجحًا، فيقولون إما إنه رجل صالح وسياسي فاشل، وإما إنه سياسي ناجح، ولكنه فشل في مجال الأخلاق، لكن الشواهد تثبت حسن سياستهم، والشواهد أيضًا تثبت قيادتهم الحكيمة ليس لأوطانهم فقط، بل للأرض جميعًا في زمانهم، إذن في عُرف العلمانيين، والمستشرقين لا بد لهؤلاء الساسة الناجحين أن يكونوا متآمرين، هذا ما شاهدوه في الواقع الآن، ولا يتخيلوا أن يوجد في هذا الماضي السحيق هذه الصورة النقية البهية للساسة المسلمين المهرة في سياستهم، والأنقياء في قلوبهم، الذين يديرون الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
هذا طراز أسطوري بالنسبة للعلمانيين، لكنه حدث في عهد الإسلام، ويتكرر والله كثيرًا في تاريخنا، ليس في عهد الصحابة فقط ولكن في عصور أخرى كثيرة، وفي أماكن متعددة، ولا بد أن نفرغ الأوقات لاستخراج الكنوز الثمينة والرموز العظيمة، وما أكثرها.
المهم أن المستشرقين ساروا وراء طوائف الشيعة المتبعة لهذه الشبهة الخطيرة، شبهة تآمر أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة y لتبادل أدوار الخليفة، الواحد تلو الآخر، وذلك في زعمهم بمساعدة السيدة عائشة رضي الله عنها.
وتعالوا نبحث قليلاً في هذه المؤامرة المزعومة:
أولاً: من هؤلاء المتهمين بالمؤامرة؟
- أبو بكر الصديق t، أهذا الرجل الذي تحدثنا عنه في هذا الكتاب، الذي يتآمر بهذه الصورة على الخلافة؟!
أهذا الرجل الذي تحدثنا عن إيمانه، وصدقه، وورعه، ورقة قلبه، وسبقه وإنكاره لذاته وثباته، أهذا الرجل هو الذي يتآمر؟!
أهذا الرجل الذي كان يتورع عن لقمة واحدة حرام، لا يتورع عن أكل حقوق أمة كاملة؟!
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق غلامُ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه -الخراج شيء يجعله السيد على عبده، يؤديه إلى السيد كل يوم وباقي كسبه يكون للعبد- فجاء هذا الغلام يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ قال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت في الجاهلية لرجل، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني لذلك، هذا الذي أكلت منه.
إذن هذا مال حرام أخذ بخديعة وبكهانة، ماذا كان رد فعل الصديق للقمة أكلها ونزلت في معدته.
فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
هذا هو الصديق t، ثم أليست هناك إشارات في منتهى الخبث، في اتهام الصديق في صدقه، وإدعاء أنه كذب ليستولي على الخلافة، أليس الذي سماه بالصديق هو رسول الله r، بل في رواية أن الله U هو الذي سماه بذلك، أليس هذا هو الذي سماه الله بالأتقى؟
أيفعل هذا الصديق الأتقى؟!
أيكون أول الداخلين إلى الجنة من أمة الإسلام بعد رسول الله r على هذه الصورة، فكيف بمن يدخلون من بعده، إذن هذا هو الرجل الأول في الاتهام في شبهتهم، قاتلهم الله، أني يؤفكون؟
- الرجل الثاني في ادعائهم: عمر بن الخطاب t:
الفاروق t، ولو بحثت في حياته t عن أهم صفاته، وأبرز خلاله لكانت صفة العدل، والصدع بالحق، دون أن يخشى في الله لومة لائم، أيفعل هذا الذي وصف بذلك ما يدعيه هؤلاء المغرضين؟ روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ". قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدِّينُ".
أهذا الذي يغمره الدين إلى هذه الصورة يقوم بمثل هذه المؤامرة؟
- الرجل الثالث في ادعائهم: أبو عبيدة بن الجراح t:
هو الرجل الذي سماه رسول الله r بالأمين، صفة مميزة له في حياته كلها، روى البخاري ومسلم عن حذيفة t قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله r فقالوا: يا رسول الله ابعث لنا رجلاً أمينًا.
فقال: "لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلا أَمِينًا، حَقَّ أَمِينٍ حَقَّ أَمِينٍ".
قال حذيفة: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح t.
وانظر عندما يختار رسول الله r رجلاً من كل الأمة يصفه بالأمانة، ويسميه أمين هذه الأمة، أي أشد الناس اتصافًا بهذه الصفة في هذه الأمة، ثم يأتي قوم فيطعنون في أمانته، ما الذي وراء ذلك؟ أليس هذا طعنًا في الأمة بأسرها؟
ثم أليس هذا طعنًا في الذي سماه بهذا الاسم؟
يقولون بدلوا وغيروا من بعده؟
أي حجة تافهة، أليس منقصة في حقه r، أن يربي ويعلم وينصح سنوات وسنوات، ثم يأتي النبهاء والفضلاء الأوائل من تلامذته، فيفشلون جميعًا في أول اختبار، فيفشل الصديق في صدقه، ويفشل الفاروق في عدله، ويفشل الأمين في أمانته؟
أليس عجيبًا حقًّا هذا الاتهام؟
لكن سبحان الله، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
- المتهم الرابع في ادعائهم: السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
واحدة من أعظم نساء العالمين، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري t قال: الرسول الله r: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ تَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ".
وفي رواية زاد عليهن: خديجة رضي الله عنها, وفي رواية زاد عليهن: فاطمة بنته r.
ثم قال: "وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
كثير من العلماء قالوا أنه بهذا الحديث تكون السيدة عائشة الأفضل على النساء، ومن العلماء قدم هؤلاء على السيدة عائشة، لكن على أي حال هذه واحدة من أعظم نساء العالمين على الإطلاق، فإذا كانت واحدة بهذا القدر وهذه المكانة تتآمر على الخلافة لصالح أبيها فأي خير يبقى في الأمة؟
طعن خبيث لا شك أن وراءه طعنًا في الأمة بأسرها، إذن في الرد على شبهة التآمر هذه ذكرنا صفات الذين اتهموهم بالمؤامرة ورأينا كيف أنه يستحيل، فعلاً يستحيل في حقهم هذا الأمر.
ثانيًا: لم يرد أي نص صحيح يصف على وجه اليقين، أو حتى على وجه الشك مثل هذه المؤامرة، ونحن لا نأخذ شيئًا من سيرة الرسول r ولا من سيرة الصحابة إلا بنقل صحيح، ودليل قوي ثابت، لا نقبل برواية موضوعة، أو منكرة، أو شديدة الضعف، وبالذات في الأمور الخلافية، والأمور التي فيها طعن، ولو بسيط في أحد الصحابة، فكيف بمن يطعن في عمالقة الصحابة؟ وبشبهة مثل هذه الشبهة.
ثالثًا: إذا كانوا قد تآمروا على هذا الأمر في حياة الرسول r، فأين كان الوحي وقت ذلك؟
أيعلم الله U بمثل هذا الأمر الخطير، ثم لا يوحي إلى رسوله r بهذا؟
أم يوحي إلى الرسول r بذلك ويكتم؟
إن الأمر على أي وجه فيه طعن مباشر ليس في كبار الصحابة فقط، بل في الله ورسوله، ولا يخفى ضلال هذا المنهج في التناول.
رابعًا: الأحداث التي دارت قبيل وفاة الرسول r، وبعد وفاته، لا توحي مطلقًا بوجود مؤامرة، فلم يكن أبو بكر قريبًا من بيت الرسول r في الوقت الذي طلب رسول الله r تقديمه للصلاة، ولو كان هناك اتفاق بينه وبين السيدة عائشة لأصبح قريبًا من البيت حتى يتولى الإمامة حسب الاتفاق، بل إنه في اليوم الأخير في حياة الرسول r، مع أنه يعلم أن هذا المرض هو مرض موت الرسول r، إلا أنه قد استأذن في الذهاب إلى السنح خارج المدينة، حيث بيت أم خارجة زوجته.
ولو كان يرغب في الخلافة، ويتآمر عليها لبقي في بيته الذي بالمدينة بيت أسماء بنت عميس رضي الله عنها، ثم لو كان هناك تآمر، أكانت السيدة عائشة تراجع رسول الله r في أمر الصلاة وتقول له: إن أبا بكر رجل أسيف أو رقيق؟!
كان من الممكن أن يقول لها رسول الله r: نعم الحق معك فليصل فلان بالناس، فإذا عين رجلاً آخر كانت الصلاة له، ثم الخلافة بعد ذلك، ولكن ذلك لم يحدث، على الرغم من أن السيدة عائشة راجعت الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصر الرسول على موقفه.
وكما ذكرنا لم تكن فاطمة ولا علي رضي الله عنهما بعيدين عن سرير رسول الله r، فلو أمر أحدًا غير أبي بكر بالصلاة لأخبرهما بذلك الأمر وهو ما لم يحدث.
خامسًا: هل ظهر في سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند تولي الخلافة ما يشير إلى أنهما طمعا فيها حتى يقوما بهذه المؤامرة الخبيثة؟
أعتقد أنه لو كان هناك رجل بهذا الخبث الذي يتحايل فيه على نبي، وعلى أمة، فإن حياته سوف تشهد بذلك لا محالة، ماذا فعل أبو بكر بالخلافة؟
ألم يكن خليفة المسلمين، ثم ينزل ويخدم العجوز في بيتها، ويحلب الشاة للضعفاء وعندما يُسأل: من أنت؟
يقول: رجل من المهاجرين؟
أهذا هو الرجل المتآمر على الخلافة؟
لقد كانت الرئاسة في حقه، وفي حق عمر بعد ذلك عبئًا وتكليفًا ولم تكن أبدًا هدية أو تشريفًا.
سادسًا: هل لو في نية هؤلاء الأفاضل أن يتآمروا أكانوا يذهبون إلى سقيفة بني ساعدة ثلاثة فقط؟ ألم يكن من المناسب أن يدبروا الأمر ويأتوا بالمهاجرين؟
ماذا يحدث لو اجتمعت الشورى على غيرهم؟
ماذا كانوا سيفعلون وهم ثلاثة، وفي أرض المدينة؟
التحليل الصادق يقول أنهم ما أعدوا لهذا الأمر مطلقًا، بل ذهبوا على سجيتهم، وطرحوا آراءهم، ووجدت قبولاً شرعيًّا، وعقليًّا عند الأنصار، فقدموا أبا بكر الصديق t.
سابعًا: أيتآمر أبو بكر وعمر على الخلافة؟
ألا يعلم المغرضون إلى أي القبائل ينتمون؟
أبو بكر الصديق t من قبيلة بني تيم، وهي من أضعف بطون قريش، وعمر بن الخطاب من قبيلة بني عدي وهي قبيلة ضعيفة أيضًا، أيتآمر رجلان من هاتين القبيلتين على سائر قبائل قريش؟
أيتآمرون على بني هاشم، وبني أمية وبني مخزوم وغيرها من القبائل العظيمة الكبيرة ذات المنعة؟
لقد كان اختيار أبي بكر للخلافة أمرًا لافتًا للنظر فعلاً، لقد تعجب أبو قحافة نفسه والد الصديق t من هذا الأمر فكما روى الحاكم عن أبي هريرة t أنه قال: لما قبض رسول الله r ارتجت مكة، فسمع أبو قحافة ذلك فقال ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله r. قال: أمر جلل، فمن قام بالأمر بعده؟ قالوا: ابنك. قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا واضع لما رفعت، ولا رافع لما وضعت.
فالجميع كانوا يتعجبون من هذه النتيجة للانتخاب، وليس لها تفسير إلا أنها حدثت من نفوس طاهرة أخرجت الدنيا تمامًا من القلب، وحكّمت الشرع والدين، ورضيت بقول الله وقول رسوله r.
شبهة مقولة أبي سفيان :
شبهة أخرى تافهة: يقولون: أن أبا سفيان t قال بعد أن تولى أبو بكر الخلافة لعلي وعباس رضي الله عنهما: ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة، وأذلها ذلاًّ، والله لئن شئتم لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً.
أي أن أبا سفيان t يحرض علي وعباس على الانقلاب على المدينة، يريدون بذلك أن يشيعوا أن جوًّا من الغضب، وعدم الرضا كان يملأ المدينة، وسبحان الله، ما أتفه الشبهة
أولاً: الرواية أيضًا ضعيفة جدًّا، ذكر ذلك الأستاذ محمود شاكر في كتابه القيم التاريخ الإسلامي.
ثانيًا: هل يمكن أن يتجرأ أبو سفيان t على هذا الفعل، وهو من الطلقاء؟
والطلقاء هم الذين أطلقهم رسول الله r مَنًّا عليهم يوم فتح مكة.
أيتجرأ على هذا الفعل، وهو يعلم أن قلوب المسلمين قد تكون ما زالت محتفظة بذكريات العداء الطويل معها لمدة إحدى وعشرين عامًا.
ثالثًا: هل كان يقبل علي والعباس رضي الله عنهما هذا التحريض دون رد، هل يقبل منهما ذلك في ظل الورع والتقوى والإخلاص الذي اشتهر به كلاهما؟
ومع ذلك فالرواية الضعيفة التي ذكرت القصة أوردت ردًّا من علي بن أبي طالب على أبي سفيان يبرأ ساحته وساحة العباس رضي الله عنهما، لكن المغرضين أخذوا ما يريدون، وتركا ما لا يريدون، وهكذا طبيعتهم، يؤمنون ببعض الكتب ويكفرون ببعض، لقد رد علي بن أبي طالب t في هذه الرواية بقوله لأبي سفيان: لطالما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان، فلم يضره ذلك شيئًا، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.
فحتى على فرض صحة الرواية فعلي بن أبي طالب يرد ردًّا شافيًا على الشبهة ويهدمها من الأساس.
رابعًا: أكان يسكت أبو بكر على هذا التحريض مع خطورته؟
ألم يكن من الواجب أن يكون هناك رد فعل تتناقله كتب السيرة والأحاديث، فأين ذلك الرد؟
أم هم يفترضون أن يدبر انقلابًا ويشجع عليه ولا يتحرك الخليفة؟
خامسًا: ما مصلحة أبي سفيان في تحريض علي والعباس رضي الله عنهما؟
لو كانت رواسب الجاهلية ما زالت في قلب أبي سفيان ويريد دنيا من وراء هذا الأمر فلماذا يحرض رجلين عزيزين من بني هاشم؟
لو دخلت الخلافة في بني هاشم فلن تخرج منها لعزتها، ولقرابتها لرسول الله r، وبالتالي لن تذهب إلى بني أمية، قبيلة أبي سفيان، أما إن بقيت في تيم فإنها لا شك ستخرج منها بعد وفاة الصديق فليس في بني تيم عَلَم مثل الصديق t، فحتى من الناحية الدنيوية لا يستقيم أن يفعل أبو سفيان ذلك فكيف يفترض ذلك المغرضون؟
قضية ميراث الرسول r :
والقضية لها علاقة وثيقة بقصة استخلاف أبي بكر الصديق t، فهي من أول أعماله في الخلافة t، ونتج عنها بعض المواقف التي أساء المستشرقون، وأصحابهم فهمها، واستغلوها في الطعن في عظماء الصحابة، لقد ترك رسول الله r أرضًا، كانت له بالمدينة وفدك (قرية خارج المدينة)، وما بقي من خمس خيبر، وبعد وفاته r ذهب العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان نصيب العباس ونصيب فاطمة بنت رسول الله r في إرث رسول الله r، قال الصديق t لهما كما جاء في البخاري: إن رسول الله r قال: "لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَة".
ثم قال الصديق t: إنما يأكل آل محمد r في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله r عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله r، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله r.
وقال أيضًا في رواية أخرى للبخاري: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله r يعمل به، إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
يا لها من كلمة جميلة من الصديق t، كلمة رائعة، هي تلخص فلسفة الصديق t في حياته: إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
اللهم ارزقنا فهمًا كهذا الفهم، وعملاً كهذا العمل، وإخلاصًا كهذا الإخلاص.
إذن أبو بكر الصديق عرّف عليًّا والعباس رضي الله عنهما بحكم هام، وهو أن الأنبياء لا يورثون درهمًا ولا دينارًا، وما تركوه فهو صدقة، أي في بيت مال المسلمين، قد شاء الله U ذلك حتى لا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم، بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، ولذا فحياة الأنبياء صلوات الله عليهم وتسليماته، تكون زهدًا وورعًا وبعدًا عن الدنيا، وكذلك يكون الحال لورثتهم.
لكن هل كان هذا الحكم خافيًا على علي بن أبي طالب t؟
أبدًا لم يكن خافيًا عليه هذا الحكم، سبحان الله، بل لم يكن خافيًا على العباس t أيضًا، ولم يكن خافيًا عن كثير من الصحابة، فقد روي نفس الحديث من طريق أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، والسيدة عائشة، وأبي هريرة، فما تفسير طلب العباس وعلي رضي الله عنهما للإرث؟!
وما تفسير سؤال السيدة فاطمة رضي الله عنها نصيبها في ميراث أبيها r؟!
بل أكثر من ذلك، فإنه لما رفض أبو بكر الصديق إعطاء العباس وعلي رضي الله عنهما من الإرث، تشهد علي t، وحمد الله ثم قال: إنا نعرف يا أبا بكر فضيلتك، ثم ذكر عليّ قرابتهم من رسول الله r وحقهم، أي أنه ما زال يطلب الإرث لزوجته، فقال أبو بكر t: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله r أحب إليّ أن أصل من قرابتي.
أي إنه لا يقطع قرابة الرسول r، ولكنه يقضي بما يراه صوابًا، فما تفسير تكرار الطلب من علي t مع علمه بالحكم؟!
بل أكثر من ذلك، فإنه لما رفض أبو بكر الأمر وجدت السيدة فاطمة رضي الله عنها أي حزنت، وغضبت، وذلك كما جاء في رواية البخاري، وهجرت الصديق t، فلم تكلمه حتى مرضها الأخير الذي ماتت فيه بعد ستة شهور من وفاة الرسول r، فما تفسير غضبها وهجرانها لأبي بكر الصديق t؟!
طبعًا المستشرقون والمستغربون والشيعة وجدوا في هذا الموقف مادة ثرية جدًّا للطعن في كل الصحابة، فمنهم من اتهم أبا بكر الصديق t بالظلم، لأنه حرم السيدة فاطمة من نصيبها من الإرث، ومنهم من اتهم السيدة فاطمة وعلي والعباس بحب الدنيا والسعي وراءها، وبمخالفة الشرع بطلب شيء نهى عنه رسول الله r، ومنهم من اتهم علي بن أبي طالب بأنه لم يبايع أبا بكر غضبًا لنفسه ولزوجته، ومنهم من اتهم الصحابة بالخلاف على الدنيا والهجران لذلك، فما هو التفسير الحقيقي، والمقبول لهذه المواقف المتشابكة؟
الحق أنه من المستحيل لعلي والعباس والسيدة فاطمة y أجمعين أن يطلبوا الدنيا بهذه الصورة مخالفين الشرع ومخالفين أمر الرسول r، وبالذات أن السيدة فاطمة تعلم يقينًا أنها أول من سيلحق بأبيها r من أهل بيته، هي تعلم أنها قد اقتربت جدًّا من الوفاة وليس من المعقول أن تتعلق بالدنيا إلى درجة المخالفة بهذه الصورة..
التفسير المنطقي للموقف يقول: إن العباس، وعلي، والسيدة فاطمة y كانوا يريدون الإرث ليقوموا فيه بما كان رسول الله r يفعل، يعني ينفقوا على آل بيته بما يكفيهم من الطعام، ثم يقومون هم بتقسيم الصدقة على من يستحقها في الوجه الذي يرونه هم، وذلك لأنهم قرابته وأحق الناس به كما يقولون، أي أنهم لا يريدون الإرث