إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مقدمة
ينشأ عن الدَّين مشاكل اجتماعية كثيرة بسبب إهمال الآداب الإسلامية التي شرعت للدائن والمدين، ولو التزم الدائنون والمدينون بآداب الإسلام في هذا الجانب لحلت هذه المشكلة تماماً.
فمن آداب الدائن التيسير على المعسر، وحسن الاقتضاء، والتجاوز عن المحتاج، ومن آداب المدين المبادرة إلى تسديد الدين وعدم المماطلة وحسن القضاء.
-1-آداب المقرض الدائن
إخواني: لا زال حديثنا معكم عن هذه المشكلة الاجتماعية التي ضلع فيها كثير من الخلق اليوم، وكانت سبب حرج الكثيرين، لأن الآداب الإسلامية في هذا الجانب قد أهملت، وقد تكلمنا عن خطورة الدَّين والتشديد فيه، ونحن نتكلم في هذه الخطبة عن آداب المقرض وآداب المقترض، وما يجب على عموم المسلمين تجاه الدائن والمدين.
أما المقرض صاحب الإحسان الذي أعطى القرض لأخيه المسلم، فإنه إذا جاء موعد حلول الدين، ولم يستطع المقترض أن يوفي الدين، فإن عليه أن يصغي سمعه لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280] .
فأمر الله سبحانه وتعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً، وليس كما كان أهل الجاهلية يفعلون؛ يقول أحدهم لمدينه إذا حل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، إما أن تعطيني مالي الآن أو أحسب لك الربا ابتداءً من هذا التاريخ، ولقد جاءت هذه الآية مباشرة بعد آية الربا، التي يقول الله عز وجل فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279] .
ولا يخفى عليكم -أيها الإخوة- أن مشكلة العالم كله اليوم بالنسبة لقضايا الاقتصاد والمال إنما جاءت نتيجة الربا، والتعامل به والاقتضاء به، والاحتكام إلى أهل الربا، فحلت بذلك المشاكل، ونزل الجوع والفقر في بلاد كانت في يوم من الأيام من أغنى البلاد، وكان أقوامها وأهلها من أغنى الأهل والأقوام، وقد تحقق فيهم قول الله عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] .
والله عز وجل لم يحدد ما هي نوع الحرب، هل هي حرب عسكرية، أم حرب أمراض، أم حرب اقتصادية بالجوع والفقر.
فحل حرب الله بالمستعملين للربا، فكان قوم من الأقوام في العلية أغنياء، فأصبحوا اليوم عالة بسبب هذا الربا وتطبيقه والركون إلى أهله.
إنظار المعسر
وأول ما يجب على المقرض ألا يستعمل الربا، فإذا عجز المقترض عن وفاء الدين فعليه أن ينظر أخاه المسلم بالإحسان، وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب حقاً، فليطلبه في عفاف وافياً أو غير واف) وهذا الحديث في سنن ابن ماجة، وعنون عليه المصنف رحمه الله: باب حسن المطالبة وأخذ الحق في عفاف.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) رواه البخاري، فهو يسامح صاحبه عند المطالبة بالدين.
وهذه الأحاديث قد أحدثت فعلها في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم.
فعن عبد الله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة رضي الله عنه طلب غريماً له فتوارى عنه، ثم وجده أبو قتادة، فقال الغريم: إني معسر، فقال: آلله؟ يستحلفه على إعساره، فقال: آلله، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه) وفي رواية عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال: نعم هو في البيت، يأكل خزيرة -نوع من أنواع الطعام- فناداه يا فلان، اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا، ثم قال له: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر وليس عندي مال، فقال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة رضي الله عنه -تأثراً بحال أخيه المسلم، الذي ألجأه عدم وجود المال للاختباء من صاحب الدين والفرار منه- ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة) .
وليست هذه أحوالاً فردية، بل إن الأمر كان واسعاً في مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم في إنظار المدين، فروى مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت رحمه الله قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا -خرج هذا الفتى مع أبيه يطلبان العلم، في الأنصار قبل أن يموت الأنصار؛ حرصاً على تحصيل العلم- فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له مع ضمامة من صحف -معه أوراق مضمومة- فقال له أبي: يا عم! إني أرى في وجهك سفعة من غضب -وهذا أدب المتعلم مع العالم، وأدب طالب العلم، في مراعاة حال معلمه قبل أن يسأله، وفي استجلاء ما على وجهه من الآثار- إني أرى في وجهك سفعة من غضب، قال: أجل.
كان لي على فلان بن فلان الحرامي -نسبة إلى بني حرام- مال، فأتيت أهله فسلمت فقلت: أثم هو؟ قالوا: لا، فخرج إلي ابن له جفر -أي: غلام صغير- فقلت: أين أبوك؟ فقال لي: سمع صوتك، فدخل أريكة أمي -وهكذا يبلغ الحال بالمدين أن يفر من الدائن إلى مكان النساء من الذل الذي يلقاه- فقلت له: اخرج فقد علمت موضعك، فخرج المدين فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ولا أكذبك، خشيت أن أحدثك فأكذبك، وأعدك فأخلف -يقول: خشيت أن أكذب في الحديث وأن أخلف الوعد، فآثرت الاختباء على الخروج إليك- وكنت قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ والله معسراً، فقلت: آلله إنك معسر؟ قال: آلله -وفي رواية: رددها ثلاثاً- فاستخرجت صحيفة الدين فأعطيتها لهذا المدين فمحاها بيده وقلت: إن وجدت قضاءً فاقضني وإلا فأنت في حل -لقد أحللتك إن كنت لا تستطيع- ثم قال: فأشهد بصر عيني هاتين، ووضع أصبعه على عينه، وسمع أذني هاتين -كذا ضبطاها في جامع الأصول - ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى نياط قلبه- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله) .
تعامل المقرضين من الصحابة مع المقترضين
أيها الإخوة: لقد عملت هذه الأحاديث عملها في نفوس الصحابة، فاستجاب أصحاب الديون للترغيب الصادر من رسولهم صلى الله عيه وسلم، فبدءوا يضعون الديون عن المعسرين، ويتجاوزون عنهم، وينظرونهم إلى آجال طويلة، حتى يستطيعوا القضاء؛ لأنهم سمعوا رسولهم صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) وقال عليه السلام: (من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة) .
بل إنهم قد سمعوا أحاديث فيها ترغيب شديد؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) فلو أقرضت مسلماً قرضاً ثم أخذته، ثم أقرضته ثم أخذته، فكأنك تصدقت بهذا المال، مرة واحدة، ولك أجر صدقة كاملة عن هذا المال وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة) .
فإذاً إنظار المدين إلى حلول الأجل وإلى ما بعد حلوله فيه أجر عظيم، وكان بعض السلف يسلفون أموالهم للناس انتظار الثواب العظيم من الله عز وجل، فلقد كانت أحاديث الترغيب تفعل فعلها في نفوسهم.
إن إسلاف الناس كان له أثر في إنقاذ نفوس من جهنم؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان رجلاً موسراً -غنياً- وكان يخالط الناس، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، فقال الله عز وجل لملائكته بعد أن مات هذا الرجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه) الله أكرم الأكرمين، أحق من هذا الرجل بالتجوز فتجاوز الله عنه سيئاته.
وفي حديث صحيح آخر: (أتي الله عز وجل بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال: له ماذا عملت في الدنيا؟ فقال: ما عملت من شيء يا رب إلا أنك آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي أن أيسر على الموسر، وأنظر المعسر، قال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي) وفي رواية صحيحة أخرى: (أن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، فلما هلك قال الله: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، قال الله: قد تجاوزت عنك) .
أيها الإخوة: هذه الآيات القرآنية: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ، وهذه الأحاديث النبوية تبشر بهذه الأجور العظيمة لمن تغاضى عن ديون الناس وأنظرهم وأخر آجال الاقتضاء حتى يستطيعوا الوفاء، وهي رسائل لأصحاب الديون من الأغنياء أو من غيرهم، ممن يطاردون المدينين فيرهقونهم، وقد يزجون بهم في السجن، وخلفهم عيال فقراء، ومع أن سجن المدين من حق الدائن، ولكن {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ومن أنظر فأجره على الله، والأجر الدائم خير لك من هذا المال الفاني في هذه الدنيا.
-2-آداب المقترض (المدين)
وأما بالنسبة للمدين الذي عليه الدين، فإنه عليه آداباً:
المبادرة إلى قضاء الدين ولو مقسطاً
أولها: أن يبادر فوراً إلى القضاء إذا ملك، أو يبادر إلى قضاء جزء إذا ملك هذا الجزء حتى يضع عن كاهله هذا الثقل العظيم الذي ستتعلق به نفسه، وتكون محبوسة به في القبر إذا هو لم يوفه إلى صاحبه
حسن القضاء
الأمر الثاني: أن يحسن القضاء إلى صاحب الدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أعرابياً جلفاً غليظاً في خطابه، فأغلظ له، فهم به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً -صاحب الدين له صولة الطلب وقوة الحجة، ولكن مع مراعاة آداب الشرع- فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه -لم يجدوا بعيراً مثل الذي استلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وكان عليه الصلاة والسلام قد استلف من هذا الرجل بعيراً- قال: اشتروه، فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع صاحب الحق كنتم!) .
اليوم أيها الإخوة! لا يقف الكثيرون مع صاحب الحق، وأحياناً يكونون في موقع الحكم والقضاء، لا يقفون مع صاحب الحق، ويأخذون الرشاوى، حتى يحكموا لغير صاحب الحق، ويل لهم من نار جهنم يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (هلا مع صاحب الحق كنتم! ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتينا تمرنا فنقضيك، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله) وهذا يدل على جواز أن يقترض المدين قرضاً من دائن غير مستعجل حتى يوفي دائناً مستعجلاً، فقالت: (نعم بأبي أنت يا رسول الله، فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال الأعرابي لما رأى حسن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم: أوفيت أوفى الله لك) فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك خيار الناس، لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع) أي: لا خير في أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه بدون قلق ولا إزعاج، لأن الضعيف قد يأخذ حقه في بعض الحالات، لكن بعد أن يريق ماء وجهه، وبعد أن يسحب ويماطل، وبعد أن يقلق ويزعج، وعلى صاحب الدين أن يتوكل على الله في وفاء دينه وأن يسارع إليه حالاً، وهذه قصة عظيمة في هذا الأمر.
القصة في البخاري وغيره؛ يقول عليه الصلاة والسلام: (إن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً! قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً! قال: صدقت -لما لمس صدق صاحبه قال: صدقت! كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً- فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر ليتاجر بها، فقضى حاجته، وتاجر وربح، ثم ذهب يلتمس مركباً ليعود إلى صاحب الدين حتى يصل في الوقت المحدد، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها -حفرها وجوفها- فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، يذكر فيها حاله وأنه لم يستطع أن يأتي وهذه حيلته، ثم زجج موضعها -أقفل على الخشبة- ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت من فلان ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً! فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً! فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أجد، وإني أستودعكها -والله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه- فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، وما اكتفى بإلقائها، وإنما جعل يلتمس مركباً، فخرج الرجل الذي كان أسلفه لعل مركباً قد جاء بماله، خرج في الوقت المحدد إلى الساحل، ينظر هل قدم مركب بالمال الذي أسلفه في الموعد المحدد، فما وجد مركباً، وإنما وجد الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، قال: آخذها لأهلي حطباً، فلما نشرها -وفي رواية معلقة: فنشرها أهله فتناثرت منها الدنانير والدراهم والصحيفة- فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بألف دينار أخرى، يظن أن تلك قد ضاعت، وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي شيئاً؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً) وهكذا تكون عاقبة التوكل على الله، فإن الله يؤدي، والمهم أن تصدق النية، والمشكلة عند الكثيرين من أصحاب الديون أنهم لا يصدقون النية في الأداء، فلذلك لا يساعدهم الله ولا يعينهم في أداء الديون.
-3-تسديد أجور العمال المتأخرة
ومن أنواع الديون -أيها الإخوة- الدين الذي يكون للعامل عند صاحب العمل، فإن بعض العمال قد يغادرون البلاد، ولهم عند أصحاب العمل رواتب لم يستلموها، وهذه الرواتب هي ديون ولا شك على صاحب العمل، وهنا تبرز مسئولية صاحب العمل في البحث عن هؤلاء العمال الذين انتقلوا من أماكنهم، حتى يوصل إليهم حقوقهم، ولو اضطر لأن يسافر إلى آخر الدنيا.
ويدل على عظم حق العامل حديث الثلاثة الذين كانوا يمشون في مطر، فدخلوا غاراً، فانطبقت عليهم الصخرة، فكادوا أن يموتوا، حتى صار كل واحد منهم يدعو الله بعملٍ صالح لعل الله يفرج عنه، فواحد دعا الله بعمل صالح في بر والديه، وواحد دعا الله بعمل صالح في أنه قد قام عن امرأة كاد أن يزني بها خشية لله، وقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً، فلما قضى عمله، قال لي: أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه -أي: أنميه- حتى جمعت منه بقراً ورعاءً -وهذه هي الأمانة، فصاحب العمل ينمي هذا الدين الذي عليه للعامل- فجاءني في يوم من الأيام، وقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها كلها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي -ظن أنه يستهزئ به، لأن المال الأصلي قليل- فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه وذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي، ففرج الله ما بقي من الصخرة وخرجوا، قال العلماء: وهذا أعظم الثلاثة، لأن الله فرج عنهم بسببه التفريج التام، وأزال الصخرة.
إن أصحاب العمل اليوم يظلمون عمالهم، ويأكلون من حقوقهم، هؤلاء العمال أجرهم لن يضيع عند الله، وهذا الظلم لن يذهب وإن مات الغني غنياً في الدنيا، ومات العامل فقيراً في الدنيا، فإن لهم يوم القيامة شأنا آخر، فبادر يا صاحب العمل إلى أن توفي ما عليك لأصحابه، قبل أن يكون يوم لا مال فيه ولا دينار ولا درهم، وإنما بالحسنات والسيئات.
-4-عدم المماطلة
ومن آداب المدين كذلك أن يعجل بتسديد الدين تاماً، وبعض المستلفين يكون عنده ما يوفي به الدين، ولكنه من دناءة نفسه يقسطه على صاحب الدين المقرض المحسن؛ يقسطه عليه مبالغ صغيرة جداً، يكون عليه خمسون ألفاً مثلاً، فيعطيه يوماً خمسمائة، ويوماً مائتين، ويوماً مائة، ويوماً ألفاً، حتى يجعله ييأس من وفاء الدين، وعنده ما يوفي به المبلغ كاملاً، ولكن دناءة النفس والشح -نعوذ بالله من الشح- ويصبح صاحب الدين كأنه هو الفقير الذي يطارد، يمشي وراء المدين يقول له: أعطني أرجوك، إن عندي أعمالاً وتجارات، وعندي عمالاً ما أخذوا رواتبهم، وذلك الرجل المقترض عنده مال ولكنه لا يقضي، وهذه من المشاكل العويصة الموجودة -أيها الإخوة- اليوم، بسبب عدم خشية الله، وعدم معرفة حق الله عز وجل، وحق عباده الذي لن يضيع عند الله.
ومن الآداب كذلك أنه إذا وفى الدين أن يقول للدائن كلمات الشكر والثناء.
هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.