السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ..
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان .
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسولُهُ أَحَبَّ إليه مما سِوَاهما، ويُحِبَّ المرء لا يُحِبُّهُ إلا لله، وأن يَكْرَهَ أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُقْذَفَ في النار وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أو قال: لأخيه- ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ .
المحبة عبادة قلبية، ولكن تظهر آثارها على البدن. والإيمان عمل قلبي، ولكن تظهر آثاره أيضا على البدن، وللإيمان حلاوة، حلاوة يجدها المؤمن. المؤمن حَقًّا يجد للإيمان حلاوة. أنتَ تجد للعسل حلاوة، وتجد للسُّكَّرِ وللتمر حلاوة ولذة؛ فكذلك أهل الإيمان يجدون للإيمان حلاوة، حلاوة في قلوبهم يظهر أثرها على أبدانهم؛ وذلك لأن المؤمنين حقا يتلذذون بالعبادة، يتلذذون بالصلاة، ويتلذذون بالذِّكْرِ، ويتلذذون بالشكر. ويلتذون بالصيام، ويلتذون بالصدقة، ويلتذون بالدعاء، ويلتذون بقيام الليل، ونحو ذلك. يجدون في هذه العبادات لذةً وطعما في قلوبهم أحلى من طعم السُّكَّرِ في أفواههم.
فيقول في هذا الحديث: ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان اخْتُلِفَ في هذه الحلاوة؛ هل هي حلاوة حسية، أو حلاوة معنوية؟ الحلاوة الحسية هي ما يوجد طعمه، ويُحَسُّ به بحيث إنه يحس بطعم الشيء في فمه أو في بدنه أو في قلبه. والحلاوة المعنوية هي أن يكون لها آثار. رَجَّحَ كثير من العلماء أن هذه الحلاوة حلاوةٌ حِسِّيَّة، وأن أهل الإيمان يَلْتَذُّون بالأعمال الصالحة أَلَذَّ من غيرهم. هناك مثلا أهل الغناء يَلْتَذُّون بسماع الغناء، ويجدون له مثلا طربا ونشوة في نفوسهم. ولكن أهل القرآن يجدون لسماعه ولقراءته حلاوةً أَلَذَّ من حلاوة أهل الغناء التي يجدونها، والنشوة التي يجدونها.
يقول بعض السلف: أهل الليل في ليلهم أَلَذُّ من أهل اللهو في لهوهم. أهل الليل يُرَاد بهم أهل التهجد؛ وذلك لأنهم في تهجدهم وفي صلاتهم، وفي قراءتهم وأذكارهم وأدعيتهم، وفي خشوعهم وخضوعهم وتواضعهم، وتذللهم لربهم ومناجاتهم له وسؤالهم له -يجدون نشوة في نفوسهم، ويجدون نشاطا في قلوبهم، ويجدون نشاطا في أبدانهم. وهذا النشاط وهذه اللذة هي حلاوة الإيمان. كان كثير منهم يَلْتَذُّون بقيام الليل، يقول بعض السلف: كابدت قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت به عشرين سنة؛ يعني في العشرين الأولى كان يُكْرِهُ نفسه، ويجد ثقلا. وأما في العشرين الثانية فإنه يجد لذة؛ يعني يلتذ بالصلاة في وسط الليل وفي آخر الليل، ويلتذ بالقراءة ويلتذ بالدعاء، ويلتذ بسماع كلام الله أو إسماعه، ويلتذ بالتضرع إليه وبالقيام إليه، ويلتذ بخشوعه وخضوعه وسجوده وركوعه. يجد لذلك حلاوة في قلبه، وقوة في بدنه، ونشاطا في قلبه، ونشاطا في إيمانه، هذا حقيقة حلاوة الإيمان.
ولذلك كان كثير منهم إذا دخلوا في الصلاة غابوا عن الدنيا، ولم يشعروا بمن حولهم، كما ذكروا أن سعيد بن المسيب رحمه الله إذا دخل بيته سكتَ أولاده وسكت أهله، ولم يرفع أحد منهم صوته؛ لأنه ينهاهم عن ذلك. ولكن إذا دخل في الصلاة انشغل بالصلاة، وأقبل عليها إقبالا كُلِّيًّا، ولم يسمع مَنْ حوله. يصيح هذا، وهذا يُصَوِّت، وهذا يرفع صوته، وهذا يتكلم، ولا يسمع شيئا منهم؛ وذلك لأن قلبه منصبٌّ على عبادته، مقبل عليها إقبالا كليا؛ لماذا؟ لأنه تفرغ لهذه العبادة، وانشغل بها عن غيرها. ووجد لها حلاوة، ووجد لها لذة؛ فهذا حقيقة حلاوة الإيمان التي ذُكِرَتْ في هذا الحديث.
وكانوا أيضا يجدون للمعصية مَرَارَةً. المعصية التي كانت لذيذة عند كثير من الناس. أهل الإيمان تنفر منها نفوسهم وتشمئز منها قلوبهم، ويبتعدون عنها ولو كان فيها ما كان! لذة الزنا مثلا وشهوته التي تميل له النفوس. أهل الإيمان يجدون له شناعة وكراهة وبُغْضًا ونُفْرَةً في نفوسهم، ولوكان فيها ما فيها. وكذلك مثلا حلاوة الخمر، مع كونها لذيذة، ولكنها مرة زعاف عند أهل الإيمان، يبغضونها وتنفر منها نفوسهم. وكذلك مثلا حلاوة ولذة الغناء والطرب والرَّقْصِ الذي يلتذ به أهل اللهو، وأهل الغناء ونحوهم، هذا أيضا يُعْتَبَرُ شناعة عند أهل الإيمان، تنفر منه نفوسهم، ويبتعدون عنه، ولا يلتذون به، بل يجدونه ثقلا على آذانهم.
إذا سمعوه صموا آذانهم، وذلك لأنهم يعتبرونه أذى ويعتبرونه مرارة وكراهة، هكذا يكون أهل الإيمان. وبضدهم أهل الكفر، وأهل الفسوق، وأهل المعاصي؛ فإنهم يلتذون بالغناء، وينفرون عن القرآن. يلتذون بالمعاصي، وينفرون عن المساجد، يلتذون بالمخالفات، وينفرون عن الطاعات؛ فلذلك يُقَال: لا يجتمع في القلب محبة قرآن الله، وقرآن الشيطان.
يقول ابن القيم في نونيته:
أَتُحِبُّ أعداء الحبيب وتـدعي
حُبًّا له؟! ما ذاكَ فـي إمكـانِ
حُبُّ الْقُرَانِ وحُبُّ ألحان الْغِـنَا
في قلبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَـانِ!
حُبُّ الْقُرَانِ وحُبُّ ألحان الْغِنَا
في قلبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ!
حب القرآن يعني: محبته وحب ألحان الغنا فلذلك نقول: إنَّ مَنْ أحب الله نفر من معصيته. إن من أحب الله أحب طاعته، وهكذا مَنْ أحب النبي صلى الله عليه وسلم. وإنَّ من أحب الطاعة التذ بها، وجد لها حلاوة ووجد لها طلاوة، ووجد لها سلوة ووجد لها نشاطا إقبالا في كل أنواع الطاعات. فقوله: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ؛ يعني أن يُقَدِّمَ محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم على محبة كل شيء على وجه الأرض -ولو كانت نَفْسُهُ تميل إليه.
وما ذاك إلا أن ربه هو خالقه، وهو رازقه، وهو مالكه؛ فهو عَبْدٌ لربه، مملوك له، وهو يعترف بفضل ربه عليه، وبنعمته عليه، وبإعطائه ما أعطاه، وبتفضيله على غيره من حُرِمَ هذا الإيمان؛ فلذلك يُقَدِّمُ محبة الله على محبة كل شيء، يُقَدِّمُ محبة النبي صلى الله عليه وسلم على محبة كل شيء على وجه الأرض. يُقَدِّمُهَا على محبة نفسه، وعلى محبة ولده، وعلى محبة أبيه، وعلى محبة الخلق كلهم. وكذلك يقدمها على محبة شهواته، على محبة ملذاته، على محبة ما تهواه نفسه، وما تنظر إليه عينه؛ لماذا؟ لأنه يعترف بأن ربه هو المالك له، ويعترف بأن ربه إذا أعطاه، وإذا خَوَّلَهُ وإذا أكرمه فلا يحس بهوان، ولا يحس بضعف، ولا يحث بألم.
ربه تعالى هو الذي يتولاه ويحرسه، ربه هو الذي يعطيه، وهو الذي يسليه، وهو الذي ينصره ويؤويه؛ فلا يحتاج إلى أحد مِنْ خَلْقِ الله تعالى، فيقدم طاعته على طاعة غيره. ما أكثر الذين يقولون: إننا نحب الله! ولكن لابد من علامةٍ لهذه المحبة؛ لذلك لا بد من اختبار كل مَنْ يقول: إنه يحب الله ويحب الرسول. ذُكِرَ أن اليهود لما قالوا: نحْنُ أبْناءُ اللهِ وأحِباؤُهُ ؛ أي نحب الله ويحبنا الله -اختبرهم الله وامتحنهم أنزل آية المحنة. آية في سورة آل عمران وهي قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ؛ فلذلك يقال: إذا كنت تحب الله فأطع ربك، إذا كنت تحب محمدا صلى الله عليه وسلم فأطعه واتبعه. فإذا لم تفعل فأنت كاذب، ولذلك يقول بعض السلف: مَنِ ادَّعَى محبة الله ولم يوافقه فدعواه باطلة؛ أي كذاب! إذا ادعى أنه يحب الله وعصاه، إذا ادعى أنه يحب النبي صلى الله عليه وسلم وخالف أمره -فدعواه باطلة، ليس صادقا.
يقول بعضهم:
أَتُحِبُّ أعداء الحـبيب وتـدعي
حُبًّا له؟! مـا ذاكَ فـي إمكـانِ
لا شك أن هذا ليس بصحيح، ليس هذا صحيحا؛ وذلك لأن مَنْ أحب الله تعالى أطاعه واتبعه. ولا شك أنَّ مَنْ أَحَبَّ الله تَعَالَى أبغض معصيته، وابتعد عنها. وهكذا دائما أن مَنْ أَحَبَّ الله تعالى أَكْثَرَ من عبادته. ولا شك أيضا أن مَنْ أحب الله تعالى فإن الله يحبه، ثم يُوَفِّقُهُ لِأَنْ تكون أعماله كلها في رضا الله تعالى، يقول في الحديث القدسي: ولا يزل عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله يمشي بها ؛ يعني أن الله تعالى إذا أحبه وفَّقَهُ لأن تكون حركاته كلها فيما يُرْضِي رَبَّهُ. لا يفعل إلا ما يرضي ربه سبحانه وتعالى.
فأما الذي يعمل المعاصي، ويقول: إنني أحب الله، فإننا نقول له: لست صادقا! لو كنت صادقا لما عصيت ربك. ولذلك يقول بعضهم:
تعصـي الإلـه وأنـت تـزعم حبه
هـــذا عجيبٌ فـي الفعـال بَدِيعُ
لـو كـان حـبك صادقـا لأطعتـه
إن المحـب لمـن يُحِـــبُّ مُطِيعُ
هكذا تقول لكل من رأيته يتهاون بالطاعة. يتهاون بالطاعة فيتركها، يعصي ربه بما أمر به، يتهاون بالمعصية فيفعلها، يعصي ربه معصية ظاهرة. تقول له:
لـو كـان حـبك صادقـا لأطعتـه
إن المحـب لمـن يُحِـــبُّ مُطِيعُ
فلا يغتر بكثير من الذين يفعلون المعاصي، يتركون الصلوات مثلا، ويقولون: يكفينا أننا نحب الله! يكفينا أننا نحب نبيه! نقول: كذاب. كذاب من يدعي هذه المحبة ومع ذلك لا تظهر عليه آثارها؛ فإن لها آثارًا كما رُوِيَ عن بعض السلف عن الحسن وغيره أنه قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. صدقته الأعمال! فالذي في القلب يظهر. فإذا كان القلب محبا لله تعالى، ومحبا لنبيه صلى الله عليه وسلم ظهرت آثار هذه المحبة على الأبدان؛ فلا تراه ينظر إلى ما يكره ربه، ولا تراه يبطش بيديه إلى ما يكرهه ربه، ولا يأكل حراما، ولا يزني، ولا يكتسب حراما، ولا غير ذلك من المعاصي، يحجزه إيمانه.
وكذلك أيضا محبة النبي صلى الله عليه وسلم تستلزم طاعته. يجب تقديم مَحَبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم على محبة كل شيء. في هذا الحديث يقول: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين وذكروا أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، والله إنك لأحب إِلَيَّ من كل شيء إلا من نفسي! فقال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال: والله إنك أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال: الآن يا عمر الصحابة رضي الله عنهم يحبون نبيهم صلى الله عليه وسلم محبة شديدة، محبة قلبية.
ودليل ذلك أنهم فَدَوْهُ بأنفسهم، فدوه بأموالهم، فدوهم بأهليهم، فَدَوْهُ بكل ما يملكون؛ فأبو بكر رضي الله عنه لما خرج من مكة متوجها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان يمشي أمامه، ثم يمشي خلفه؛ لماذا يا أبا بكر ؟ فقال: إذا ذكرت الطلب-الذين يطلبوننا- مشيت خلفك، حتى أقيك، وإذا ذكرت الرصد مشيت أمامك حتى أكون بدلك وكذلك في غزوة أُحُد لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في وسط الغزوة، فكان يرتفع، ينظر في المعركة، فكان طلحة يقول: لا ترفع رأسك، نحري دون نحرك! نفسي دون نفسك! يعني أفديك بنفسي.
ولما أدركه المشركون كان معه نحو عشرة من الأنصار، ونحوهم كل ما أدركهم المشركون قال: مَنْ يردهم عنا؟ تبرع واحد من هؤلاء العشرة، ثم قال: أنا أردهم، فقاتل حتى يقتل. ولا بد أنه يَقْتُلُ منهم أو يجرح، إلى أن مات العشرة، وقتلوا. لا شك أن هذا كله من أجل محبتهم القلبية لنبيهم صلى الله عليه وسلم. وكذلك لما أنهم آمنوا وارتكز الإيمان في قلوبهم هجروا أهليهم، هجروا آباءهم وأقوامهم وأُسَرَهُم، وانتقلوا إلى المدينة، وتركوا ديارهم، وتركوا وأموالهم؛ لماذا؟ محبة لله، محبة لنبيه صلى الله عليه وسلم. فهذه آثار المحبة الصادقة. فأما الذين يقولون: إننا نحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تأتيهم الأوامر من أوامره ويرفضونها، فليسوا صادقين في هذه المحبة.
نأتي إلى بعض منهم ونقول لهم: أتحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أجل! نعم أحبه! فنقول له: ألم تسمع أنه قال لك، قال لنا جميعا: أعفوا اللحى ؟ فيقول: بلى!
لماذا لا تعفي لحيتك؟ لماذا تحلقها؟ أليس هذا دليلا على أنك ما أحببته؟!! لو كان حبك صادقا لأطعته! فمن طاعته أنك تتقبل كل سنة جاءتك من قِبَلِهِ وتقول: أهلا وسهلا، سمعا وطاعة لك يا محمد أنا أطيعك فيما أمرتني به، ولو كان في ذلك مخالفة الناس، ولو كان في ذلك كراهة من كرهني، أو مقت من مقتني. فاتباعك يا نبي الله وطاعتك وامتثال ما أمرتني به أَقْدَمُ عندي من رضا هذا، ورضا هذا، ورضا هذا.
فكذلك أيضا بقية العبادات. إذا أمرك بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاءت في كتاب ربك، فَتَقَبَّلْ ذلك وامتثله، وقَدِّمْهُ على كل أحد، وعلى كل طاعة أو معصية لأية مخلوق. هذا أثر محبة النبي صلى الله عليه وسلم. في هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: وأن يُحِبَّ المرء لا يحبه إلا لله ؛ أي أن هذا يجد فيه حلاوة الإيمان، وهو محبة المؤمنين فيما بينهم لله وفي الله، أن تُحِبَّ المؤمنين، لا تحبهم إلا لأنهم مؤمنون، وهذه هي المحبة في ذات الله. ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله -فإنما تُنَال ولاية الله بذلك، ولن يجد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك.
فلا شك أننا مأمورون بأن تكون محبتنا لله، أنَّ كل مَنْ رأيناه من أهل الخير، ومن أهل الطاعة، ومن أهل الصلاح والاستقامة والأعمال الصالحة، ومن أهل الخير والإيمان الصحيح؛ فإننا نُحِبُّهُ، ولولم يُوصِلْ إلينا مالا، ولو لم يشفع لنا، ولو لم ينفعنا، ولو اعتذر عن منفعتنا، ولو بخل علينا بماله. لكنا نحبه لصلاحه، نحبه لإيمانه، نحبه لأعماله الصالحة، نحبه لأن الله يحبه، ومحب المحبوب محبوب. فنحن نحب ربنا، ونحب كل من أحبه ربنا. هذا حقا هو أثر هذه المحبة أن تحب كُلَّ مَنْ يُحِبُّ الله تعالى. قرأت في بعض التفاسير في قوله الله تعالى: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ استشكل بعض المفسرين كيف يحبون المنافقين؟ المؤمنون يحبون المنافقين؟! تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ؟
فاعتذر بعض المفسرين وقال: إنهم يُظْهِرُون لكم محبة الله، ويُظْهِرُون لكم محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنتم تحبونهم لذلك. فيما يظهر لكم أنهم معكم، وأنهم يحبون من تحبونه، فلما كنتم تحبون الله، وتحبون نبيه صلى الله عليه وسلم كان من آثار ذلك أن تحبوا كل من أظهر محبة الله، وكل من أظهر محبة الأنبياء. وهؤلاء يُظْهِرُون ذلك، فمحب المحبوب محبوب، ومبغض المحبوب مبغوض. مَنْ أحب من تحبه فَأَحِبَّهُ، ومن أحب من تبغضه فأبغضه. هذا أثر محبة الله تعالى.
ولا شك أن الضد بالضد؛ يعني مَنْ أحب في الله تعالى فإنه يبغض في الله. إذا كنت تحب أولياء الله فعليك أن تبغض أعداء الله، ويسمى هذا أوثق عرى الإيمان. ورد في ذلك حديث : أَوْثَقُ عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله من أحب أولياء الله أبغض أعداء الله. إذا كان هؤلاء عصاة ومخالفين، وأهل كبائر وأهل بدع وأهل ذنوب وأهل كفر، فإنك تبغضهم، ولو أحسنوا إليك، ولو تصدقوا عليك، ولو نفعوك، ولو أعطوك، ولو شفعوا لك ولو قربوك ولو أكرموك، ولو رفعوا منزلتك لا تقبل منهم. يقول بعض السلف: اللهم لا تجعل لفاجر علينا منة، فَيَوَدُّهُ قلبي!. لا تقبل منهم منة، ولا عطية ولا منفعة ولا شفاعة، ولا غير ذلك.
أَبْغِضْهُم؛ لماذا؟ لأنهم يبغضون الله، ولأن الله تعالى يبغضهم، وأنت تُبْغِضُ مَنْ يبغضه ربك. فهكذا قوله: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ؛ معناه أن يبغض المرء لا يبغضه إلا لله. أنت مأمور بأن تحب أولياء الله، وكذلك تُبْغِضُ أعداء الله، ولو كانوا أقارب. ولا شك أن للمحبة علامات، وللبغض علامات؛ فإذا رأيت إنسانا يحب أهل الخير، رأيته يجالسهم، ورأيته يَقْرُبُ منهم، ورأيته يستفيد منهم، ورأيته ينصرهم، ويكافح عنهم، ويذب عنهم. ورأيته يقرب إليهم ما يقدر إليه من المنفعة وما أشبهها. وإذا رأيت أحدا يحب العصاة، وينصرهم، ويقرب منهم، ويواليهم، فإنه يحبهم، ولو كانوا عصاة.
أما المؤمن فإنه إذا أبغضهم مقتهم، واحتقرهم، وابتعد عنهم، وحَذَّرَ منهم، وحَقَّرَ شأنهم، وضللهم، ورد عليهم ضلالهم، وأنكر عليهم أفعالهم، وكرههم وكَرَّه الناس إليهم. وقال: لا تقربوا من هؤلاء فإنهم يبغضون الله تعالى، فأنتم عليكم أن تبغضوا من يبغضه ربكم، ومن يبغضه إخوانكم المؤمنون. فهذا أثر قوله في هذا الحديث: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله نقول: وأن يبغض المرء لا يبغضه إلا لله، ولو كان أقرب قريب. الصحابة رضي الله عنهم أبغضوا إخوانهم، وأبغضوا آباءهم، وأبغضوا أحفادهم، وأبغضوا أولادهم، لما لم يكونوا من أولياء الله.
وأما قوله: وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار فنقول: إن هذا أيضا أثر من آثار الإيمان الذي امتلأ به القلب، وأثر من آثار محبة الأعمال الصالحة، فإنهم لما امتلأت قلوبهم صبروا على الأذى، دل ذلك على أنهم اطمأنوا بمحبة الله وبالإيمان به، فصبروا على الأذى في الله، فلو أُحْرِقَ أحدهم في النار لم يرتد عن دينه. نجد أن الصحابة الذين أسلموا بمكة لقوا من العذاب أشده، فكان بلال رضي الله عنه يلقيه مولاه في الشمس في أشد ما تكون، ثم يضع الصخرة الثقيلة شديدة الحرارة، على صدره، ويوثقه ويقيده ويقول: لا أُطْلِقُكَ حتى تكفر بمحمد ولكن لا يزيده ذلك إلا تصلبا، لا يزيده إلا صبرا.
وكذلك غيره من الذين أوذوا في ذات الله تعالى، ومن الذين حرقوا وصبروا على الحريق، ومن الذين ضربوا وحبسوا وقتلوا وقُطِّعَتْ أيديهم وقطعت أرزاقهم، ومع ذلك ما زادهم إلا تصلبا في دينهم، وصبرا عليه، وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن هذا الدين، وهذا الإيمان هو سبيل النجاة والفكاك، وسبيل حصول الثواب عاجلا وآجلا. وكذلك أيضا وثقوا بأن ربهم سبحانه سيجعل لهم مخرجا، فوعدهم الله تعالى بذلك، وصدق الله تعالى وَعْدَهُ. لما جاء الأحزاب في سنة خمس، وأحاطوا بالمدينة عشرة آلاف من المشركين، وضيقوا على أهل المدينة فالمنافقون تزعزع إيمانهم.
قال تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا كذبوا، ونجم نفاقهم! وأما المؤمنون فصبروا. علموا بأن الله تعالى يبتليهم ليظهر إيمانهم، فلذلك قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]منقول